مهنة المحاماة عبر العصور: حصن العدالة وسلطان الحق
تُعد مهنة المحاماة من أشرف المهن القانونية، إذ إنها ليست مجرد حرفة يمتهنها الأفراد، وإنما هي رسالة سامية تستهدف إقامة العدل وصون الحقوق ورد المظالم. وقد اكتسبت المحاماة مكانتها الرفيعة عبر العصور، باعتبارها الحصن الذي يتحصن به كل صاحب حق، والدرع الذي يتصدى به المجتمع لظلم الظالمين وجور المستبدين.
لقد عُرفت المحاماة منذ فجر الحضارات، حيث كان للمدافعين عن الحقوق مكانة بارزة في المجتمع، ففي القانون الروماني وُجد نظام للدفاع أمام المحاكم، وكانت القضايا تُطرح أمام قضاة مختصين يستمعون إلى مرافعات المدافعين عن المتهمين والمدعين على حد سواء. أما في الحضارة الإسلامية، فقد عُني الفقهاء بوضع قواعد لإقامة العدالة، وكان القضاء يستند إلى مبدأ سماع الخصوم، بما يكفل تحقيق التوازن بين أطراف النزاع، تطبيقًا لقوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ” (النساء: 58).
وقد رسّخ النبي ﷺ مبدأ الدفاع عن الحقوق، حين قال: “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا”، فكان المقصود من النصرة ردع الظالم عن ظلمه، ونصرة المظلوم حتى يسترد حقه. كما كانت مبادئ العدالة في الشريعة الإسلامية قائمة على أساس تحقيق الموازنة بين الحقوق والواجبات، وهو ما جعل الفقهاء يضطلعون بدور المدافعين عن المظلومين، عبر إرساء قواعد الفقه والقضاء الشرعي.
وفي العصر الحديث، غدت المحاماة أحد الأعمدة الراسخة للعدالة، فلا تستقيم المحاكمات دون أن يتولى المحامي الدفاع عن موكله، مستخدمًا في ذلك أدواته القانونية ومنهجه الحُجّي القائم على الاستدلال والاستنباط. وقد باتت المحاماة تُشكل سلطة قائمة بذاتها، فهي جزء لا يتجزأ من المنظومة القضائية، ولا يتحقق العدل إلا بوجود محامٍ كفء قادر على كشف الحقيقة، وصياغة دفوعه بما يتسق مع المبادئ القانونية المستقرة.
ولئن كانت المحاماة تستوجب من صاحبها التسلح بالعلم والخبرة القانونية، فإنها كذلك تستلزم منه التحلي بالقيم الأخلاقية، والتمسك بمبادئ النزاهة والشرف، تحقيقًا لمقصدها الأسمى في الدفاع عن المظلومين وإعلاء راية الحق. وقد قيل في المحاماة:
هي للعدالة سيفها ودرعها وبها يُصان الحق بالإجحافِ
إن المحاماة ليست مجرد وظيفة تُمارس، بل هي التزامٌ قانوني وأخلاقي يفرض على المحامي أن يكون صوت العدل في مواجهة الظلم، وأن ينهض برسالته بروح من التضحية والإيمان بالقانون، تمامًا كما قال المتنبي:
الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلّةٍ لا يظلمُ
وختامًا، فإن المحاماة ليست مهنة تقف عند حدود المرافعة، بل هي دعامة أساسية لسيادة القانون، وركيزة من ركائز إقامة العدل، بها يُردع الظالم، ويُنصف المظلوم، وتتحقق الغاية الأسمى التي قال عنها الحق سبحانه: “وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا” (الأنعام: 115).